علم أم أداة؟

 المواقعية تتطلب مُكنَةً وتَمَكُّناً، وفِراسة وتَفَرّساً، حتى لا تهوي بك  في مزالق الحروب الإيديولوجية، والفخاخ ما بعد الكولونيالية، التي تستهدف تفجير الشعوب من الداخل، لإقحامها في حروب الهوية، التي تُفَسِّر القوميات تفسيراً عرقياً لا ثقافياً أو تاريخياً، وتقدم قراءات للتاريخ عجلى، أحادية، يُفسِّرها كل على هواه، فهي لا تشكل منه بنية ترفد من مكونات عديدة لتنتظم في هوية وطنية تأنس بكل ما هو كلي وعام، لا ظرفي وعابر، ولا تفسّر الواقع اللغوي تفسيرا مؤدلجاً، أو تصطنع معيارا مؤقتا للحكم على أصل كلمه، فاللغة المحكية لا تكذب، نقصد بها اللغة الشعبية التي تنقلها إلينا الرواية المتواترة لا الأحادية أو الشاذة، وهذه مسألة فيلولوجية لا غبار عليها، فما نستأنس به لا نتكل عليه في الوصول لأحكام لسانية تأثيلية فضلا على أن تكون جذاذة في مرجع معجمي، أو مخرجا لمادة مواقعية.

أما البعد التطوري في العمل، فمن الأمانة أن نحدّده بالزمن الحقيقي، حتى لا نلبس على القارئ ما استقر قرونا عما سمعناه منذ عشر أو عشرين سنة.. وللألسنية التاريخية في هذا بصمة لا تختلط بغيرها في حقل البحث اللساني، يتطلب علماً غزيرا باللغات القديمة، ورسوخا في اللسانيات التاريخية المقارنة، وأناة في تخريج أصل الكلمة وتطوراتها، واستشارات طويلة بين المشتغلين بهذا الحقل، وعدم استبعاد لفرضية تغلب النزعات والذاتيات على بعض الأحكام، ممّا يؤدي لإلغاء الاعتماد على هذا التخريج، والإبقاء على المشهور المعتمد، لا أن نجعله سواء بسواء في الجذاذة نفسها مع غيره، على طريقة من لا يتمكن من الوصول لحكم فقهي فيجيب قائلا: فيها قولان.. الاعتراف بالخطأ فضيلة، والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له.

لكن البحث العلمي لا يَبنى فرضية على نقل من كتاب واحد، حتى نتابعها في مراجع أصيلة ومصادر موثوقة، ثم نتأكد من الأبعاد الحقيقية لما ننقله وخلفياته هل هي موضوعية أم مؤدلجة؟ فوظيفة الباحث الأساس، أن يستبعد كل ما هو مؤدلج عن ساحة العلم والحقيقة العلمية. والبراءة العلمية، من هذا أن نسحب العمل لنطهّره مما لحقه من أحكام متسرعة، تلتبس بالباطل. والذي يقدم عملا نافلة كأن يصلي، عليه أن يقيم أركانها، وإلاّ لم تقبل منه، بدعوى نفلها، وإن كان جدارا أن يقيمه على ميزان، حتى لا ينقض على من يستظل به.. وبعاميتنا الجزائرية “قوم ولا طلڨ”، وقد قالت العرب من يخطب الحسناء يصبر على البذل، وقد خطبتم ودَّ أمّة بأكملها، وطلبتم مهر مدن تناطح التاريخ، قروناً من الزمن، مرت عليها أمم وحضارات، وتوارثت المجد كابرا عن كابر، فلا يليق بها عملٌ أُنجز فَطيرا ولم يختمر، ولا ترضى بغير مهر الحرة بنت البيوتات العالية.

د. يعرب جرادي – متخصص باللسانيات واللغة العربية


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *