العراق مُشتق من كلمة سامية أحد دلالاتها : “السواد”. هذه الكلمة تتجاذر مع العربية: “الورقاء” التي تعني السوداء، والسريانية “ܐܘܪܓܐ/أورگا” التي تعني “أسود”.
قيل الكثير عن معنى “العراق”، وتعددت الفرضيات حول أصل هذه التسمية، ودلالتها المقصودة. هذا الأمر تسبب في ظهور “خلاف علمي”، ولّد محاججات متضاربة، تتجلى، بين الحين والآخر، في الأبحاث والمقالات.
بإلامكان تقسيم تأويلات معنى إسم العراق الى قسمين: {تأويلات قديمة} و{تأويل جديد}.
{التأويلات القديمة}: هي تلك المذكورة في كتب العرب والمسلمين الأوائل. تلك التأويلات ذهبت مذاهب شتى، لكن أغلبها حام حول الضفاف والمياه والنباتات.
{التأويل الجديد}: هو القائل بأن الـ”عراق” ليس سوى تعريب لـ”اوروك / Uruk”، إسم أكبر مدن السومريين القدماء، وحاضرة بلاد الرافدين في زمانها.
التأويلات القديمة
جاء في {معجم البلدان} للحموي، عدة آراء من بينها:
“سُمي العراق عراقاً لأنه دنا من البحر وفيه سباخ وشجر“.
” العراق: شاطئ البحر، وسمي العراق عراقاً لأنه على شاطئ دجلة والفرات”.
” مأخوذ من عروق الشجر، (لأن) العراق: منابت الشجر، فكأنه جَمْع عِرق”.
” الساحل بالفارسية اسمه إيراه (…) فعربت العرب لفظ إيراه بإلحاق القاف فقالوا إيراق”.
“تعريب إيراف، بالفاء، ومعناه مغيض الماء وحدور المياه“.
وفي كتاب {معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع}، يقول البكري الأندلسي:
” يُسمّى عراقاً لأنّه على شاطئ دجلة والفرات (ويمتد) حتّى يتّصل بالبحر، والعراق فى كلام العرب: الشاطئ على طوله”.
وفي {القاموس المحيط} و{لسان والعرب} و{تاج العروس} يَرد التالي:
العراق “سُمّيَتْ (بهذا الإسم) لتَواشُجِ عُروق النّخْلِ والشّجَرِ فِيهَا”
” أَو لأنّه على عِراقِ دِجْلَة والفُراتِ، أَي: شاطِئِهما“
“أَو هِيَ معرّبة (إيران شهْر)، وَمَعْنَاهُ كثيرةُ النّخْلِ والشّجَر فعُرِّبت فَقيل عِراق”.
تأويل جديد
التأويلات المذكورة في المصادر العربية القديمة، لاتزال معتبرة ويُستشهد بها، ولكن هناك “تأويل جديد” نسبياً ظهر في أوائل القرن العشرين، يقول أن كلمة: “عراق”، هي كلمة أكدية قديمة، وأنها نفس كلمة “اوروك uruk”، ولكن بشيء من التحريف أو “التعريب”.
“اوروك” إسم لمدينة تاريخية عظيمة، تقع جنوب العراق، وتعتبر أول “مركز حضري” كبير في التاريخ البشري. أهلها السومريون الأوائل كانوا يسمونها (انوگ/Unug)، وعندما غلب عليها الأكديون الساميون غيروا اسمها الى: (اوروك/Uruk).
(اوروك) هذه، اصبحت في آخر زمانها مدينة عربية بإسم:(الوركاء)، ثم خَرُبت وعَفَا رسمها في اوائل العصور الاسلامية، أي كما حصل لـ”الحيرة” و”حديثة الموصل”.
مقاربة مواقعية
العراق “إسم مكان/toponym”، فقد “محتواه الوصفي/descriptive content”، واستمر كـ”إسم عَلم/proper name”.
“إسم العَلم” يكتسب معناه مما يشير اليه، وليس له معنى في حد ذاته. مثال لذلك: كلمة “حصان”، التي لا يُعرف لها معنى، سوى أنها “إشارة/sign” تشير الى “مُشار اليه/referent” وهو: ” الذَكَر من الخَيل”.
هناك عدة طرق للوصول لـ”المحتوى الوصفي” المعجمي الغائب لـ”إسم المكان“. من بينها إنتقاء حَذِر لكلمات تحمل نفس “الجذر الصوتي” (phonetic root) لهذا الاسم، ثم دراستها، صوتياً وصرفياً ودلالياً، على ضوء المعلومات التاريخية والآثارية والجغرافية المتوفرة عن ذلك المكان.
في {التأويلات القديمة}، ثمة ربط بين “معنى العراق” و”الماء والشجر والنخل والعروق”.
{التأويل الجديد} يقول أن “عراق” هي نفسها “اوروك“. هذه الأخيرة كلمة من كلمات اللغة الأكدية، وعليه يمكن القول أن: “عراق“، هي في الأصل كلمة أكدية، وفقاً لهذا التأويل.
اللغة الأكدية لغة شقيقة للغة العربية، الى جانب الشقيقات الاخرى (النبطية والسريانية والآرامية والعبرية والسبئية.. إلخ). كلمات هذه اللغات، في الغالب، مشترَكة، ولكن بسبب ظواهر “القلب والابدال والطرح والزيادة” قد لا تستبين العلاقة بين “الكلمة الساميّة” و “جذيرتها/cognate” في اللغة العربية. وعليه يمكن القول أن الكلمة الأكدية: “uruk” لها “جذيرة” في اللغة العربية، ليس من السهل تحديدها.
الـ”جذيرة/cognate” هي: “كلمة قريبة لكلمة أخرى في لغة أخرى، لهما جذر مشترك قديم”. مثال لذلك: الكلمة العبرية: ” צֶלֶם/صلم”، والعربية: “صنم“، كل منهما “جذيرة” للأخرى.
والآن.. هل يمكن التوفيق بين “التأويلات القديمة” و”التأويل الجديد”؟ هل يمكن العثور على كلمة أكدية دلالتها تتضمن “الشجر والنخيل والعروق” ولها نفس جِذر “اوروك”؟ الإجابة، لحسن الحظ: نعم!
العربية والأكدية
“الجذر الصوتي” لإسم مدينة: “اوروك/uruk”، هو: [ r-k ].
صوت (القاف: q ) يعتبر تفخيم لصوت (الكاف: k )، ولذلك يُسمى: [ الكاف اللهوية/uvular k ]، لأن مخرجه هو (اللهاة) وليس (الطبق). الطبق هو مخرج (الكاف: k)، ولذلك تُسمى: [ الكاف الطبقية/ velar k].
من الناحية التاريخية، الترقيق والتفخيم، لا يُخرج الكلمة من “حقلها الدلالي” الأصلي العام.
الـ”حقل الدلالي/semantic field”: عبارة عن قائمة معجمية تضم كلمات لها دلالات متقاربة، وبالإمكان وضعها تحت عنوان واحد مشترك. من امثلة ذلك، الكلمات: {اذن، أبكم، منخار، أعور، لسان، صمم، بصير، حدقة}، العنوان المشترك هو: { حواس }.
بتفخيم [ الكاف/ k] في كلمة: “اوروك/uruk”، يصبح نطقها: “اوروق/uruq “، وعليه يتغير الجذر الى: [ r-q ].
في معجم اللغة الأكدية، ثمة كلمات لها نفس هذا الجذر : [ r-q ]، وتقع في نفس “الحقل الدلالي” الذي يضم دلالات تتعلق بـ: “الشجر والنخيل والعروق”.
وهنا قائمة ببعض هذه الكلمات ومعانيها:
[arāqu, arqu, erāqu, erqu, irqu, urruqu, urrīqu, warqu, warāqu]
arāqu => Green (أخضر)
arqu => Green spot (بقعة خضراء)
erāqu => Greenish (ضارب للخضرة)
erqu => Greenery (خَضار، نباتات)
irqu => Vegetation (غطاء نباتي/جماعةُ الشجرِ)
urruqu => Verdure (عُشب نضر)
urrīqu => Vegetables (خضروات)
warqu => To become green (يَخضرّ، يعشوشب)
warāqu => To make vegetation come up (يُنبت)
بعض هذه الكلمات، كما تشير المعاجم الأصلية، هي في الواقع “بدائل املائية/spelling variants”.
البدائل، (Variants)، تُعرّف بأنها: “طُرق كتابة مختلفة لنفس الكلمة، غالباً لاتؤثر على اللفظ”. كأن يكتب: “عَمر” بدلاً عن: “عَمرو”. أو: “لاكن” بدلاً عن: “لكن”. وفي الانجليزية: “facade” بدلاً عن “façade”. أو: ” OK” بدلاً عن ” okay”.
البعض الآخر قد يكون: “صيغ لفظية جانبية/byforms” لكلمة واحدة.
الصيغة اللفظية الجانبية (byform)، تُعرّف بأنها: “صيغة لفظية (phonetic form)، أخرى للكلمة المنطوقة، غالباً ما تكون أقل شيوعاً واستخداماً من الصيغة الأصلية”. مثال لذلك: الكلمة العربية: “صاقعة” التي تعتبر “صيغة جانبية” لكلمة: “صاعقة“، وكذلك الكلمات: “حانك” و”حالك” (السواد). وفي الانجليزية: “shade” و”shadow”، و”aks”،”ask”.
العرب القدماء تنبهوا لهذه الظاهرة، وكانوا يسمونها: “لغة“، فيقال مثلاً: “هذه كلمة فيها لغات“، أي تنطق وتكتب بطرائق اخرى مختلفة. أو قد يقال: “هذه الكلمة لغة في تلك الكلمة”، أي أنها نفس الكلمة ولكن لها تهجئة مختلفة.من أمثلة ذلك الكلمات العربية: “مد” و”مت” و”مط” و”معط“، دلالتها الأصلية واحدة، وهي بذلك “لغات“، أي أن كل واحدة منهن: “لغة في” الأخرى، ولكن، بسبب ظاهرة “التفرع الدلالي” قد تكتسب هذه الصيغة أو تلك: “دلالة فرعية” تميزها قليلاً عن البقية.
الكلمات (أو الكلمة) الأكدية المذكورة أعلاه، لها “جذائر/cognates” في اللغات السامية الأخرى مثل:
السريانية: ” ܝܼܪܵܩܵܐ/ iraqa/أخضر”، والعبرية: “ירוק/yaruq/أخضر”.
أما جذيرتها العربية فتشير بعض المصادر الى أنها كلمة: “وَراق/warāq“، (بدون تشديد الراء).
حيث جاء في {لسان العرب} أن: “الوَراق، بفتح الواو: خُضرة الأرض من الحشيش“، ومنها : “الرِّقةُ” وهي “الأرض التي يصيبها المطر فتنبت فتكون خضراء“.
كلمة: “عِراق“، (بكسر العين)، قد تكون “صيغة لفظية جانبية/byform” لكلمة: “وَراق“. ولكن، بسبب ظاهرة “التفرع الدلالي” اكتسبت “دلالات فرعية” تميزها قليلاً عن: “وَراق”.
يُعزز هذا الاحتمال، وجود كلمة عربية تنطق: “عُراق” (بضم العين).
من معاني “عُراق”، في المعاجم العربية: “مَا خَرَج من النّبات على أثَر الغيْثِ“.
“ عُراق ” هذه، قد تكون “لغة” في “ عِراق “، أي أنهما في الاصل: كلمة واحدة، ولكن بتشكيل مختلف.
العين والقاف في الأكدية
“صوت العين/ع/” من الأصوات المشتركة بين اللغات السامية. ولكن، بعض هذه اللغات فقدت هذا الصوت، خلال مراحل تطورها. وفقاً لعلماء الساميات، اللغة الأكدية فقدت اصوات الحلق والحنجرة: (الهمزة والهاء والعين والحاء)، وكانت تستبدل هذه الاصوات بالصائت : /e/.
/e/ صائت غير موجود في اللغة العربية ولا في اللغة السامية الأم، وينطق قريباً من { الألف الْمُمَالَة }.
هذا قد يعني ان بعض الكلمات الأكدية التي تبدأ بـ(الـ /e/)، كانت تُنطق بالعين او أن هذا (الـ /e/) حل محل صوت العين.
من ناحية اخرى، صوت القاف من الاصوات التي تتميز بها اللغات السامية ومن بينها اللغة الأكدية.
القاف يعتبر وجه من وجوه الكاف ويسمى “الكاف اللهوية”، لانه يخرج عند “إلتقاء مؤخر اللسان بـ(اللهاة)”، ويعتبره البعض “تفخيم” لصوت الكاف. اللغويون اتفقوا على استخدام الحرف اللاتيني: “q” لكتابة هذا الصوت.
بعض الكلمات الأكدية المذكورة أعلاه، وردت على الصيغ: “erqu” و”erāqu”، واذا أخذنا بالقول ان (الـ /e/) تحل محل صوت العين في الأكدية، جاز لنا ان نعيد رسمها كالتالي:
erqu > ḣerqu > عرقو
erāqu > ḣerāqu > عراقو
(ḣ يرمز لصوت العين)
من بين تلك الكلمات، أيضاً، ما ورد على الصيغ: “warqu” و “warāqu“، ما يجعلها مطابقة تماماً للكلمة العربية: “وَراق“، صوتاً ودلالة.
“uruk” صيغة دارسة
اللغة الأكدية مشهورة بتعدد “البدائل الإملائية/spelling variants” و”الصيغ اللفظية الجانبية/byforms”.
بعض هذه البدائل أو الصيغ الجانبية قد يصبح “دارِس/ obsolete”.
البديلة الدارِسة (obsolete variant)، هي “رسم أو طريقة قديمة، لكتابة كلمة ما، لم تعد مستخدمة، ولا توجد الا في الكتب والنصوص القديمة”. من أمثلة ذلك: “يستون” التي تعتبر بديلة إملائية دارسة لـ”يستوون”، وكذلك: “يس” و “ياسين”. وفي الانجليزية: ” scip” و”brycg” التي تعتبر بدائل دارسة لـ” ship” و”bridge”.
الصيغة الجانبية الدارسة (obsolete byform)، هي طريقة نطق قديمة، لكلمة ما، خرجت من اللغة المحكية، واحتفظت بها المعاجم أو ضاعت. من أمثلة ذلك: : “سِخّينة” التي تعتبر “صيغة جانبية” دارسة لكلمة: “سِكّين” أو “سِكّينة”. وكذلك “تسميت” و”تشميت” (العاطس). وفي الانجليزية: eald > old و hlaf > loaf.
الإسم القديم للمكان كثيراً ما يكون “بديلة املائية دارسة” او “صيغة لفظية دارسة“، استمر كـ”إسم عَلم/proper name”، بعد ان فقد “محتواه الوصفي/descriptive content”.
الاسم: “أوروك/uruk” قد يكون في الأصل كلمة معجمية “دارسة” بقيت صيغها الأخرى مثل: “urruqu” و”urrīqu”، التي تعني “خُضرة” أو “خَضار” أو “جماعة الشجر“.
الوركاء والورقاء
العرب كانت تسمي جنوب العراق، (على أطراف دجلة والفرات وما بينهما)، “أرض السواد” أو “سواد العراق”.
سبب التسمية وفقاً لـ{معجم البلدان}: “لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار، فيسمونه سواداً، وهم يسمون الأخضر سواداً والسواد أخضر.»
وفي {لسان العرب}، يقول ابن منظور: “العرب تُسمي الأَسود أَخضر والأَخضر أَسود”.
وفي تعريفه للسواد يقول:
“السواد: جماعةُ النخلِ والشجرِ لِخُضْرَته واسْوِدادِه؛ وذلك لأَنَّ الخُضْرَةَ تُقارِبُ السوادَ“.
هذا التعريف مشابه لتعريفه لـ: “الوَرَاق”، (بفتح الواو الصامتة وفتح الراء بدون تشديد).
حيث يقول: “الوَرَاقُ، خُضرة الأرض من الحشيش“.
جِذر كلمة: “وَرَاق” هو: [ و- ر- ق ]، [w-r-q].
هذا الجِذر يتطابق مع جذر كلمة أخرى هي: “وُرْقَة” (بضم الواو الصامتة وتسكين الراء).
جِذر كلمة: “وُرْقة” هو: [ و- ر- ق ]، [w-r-q].
تحت مادة: [الوُرْقَة] ، نقرأ في المعاجم العربية التالي:
“الوُرْقَة: هي السُّمْرة“، ” الوُرْقَةُ: سواد في غُبْرة”، والصفة منها: “أورق” و”ورقاء“.
“الأَوْرَقُ الأَسمر، والوُرْقة السمرة، يقال: جمل أَوْرَقُ وناقة وَرْقاء“.
“الأَوْرَقُ: الذي لونه بين السواد والغُبْرَة؛ ومنه قيل للرماد أَوْرَقُ وللحمامة وَرْقاء“
و”الأَوْرَقُ من الناس: الأَسمر”، ” جاءَت به أُمُّه أَوْرَقَ أَي: أَسمر“.
هذا قد يكون مؤشر على أن “وَرَاق” و”وُرْقَةُ” في اللغة العربية: “أعدال/doublets“.
الـ”العديلة/doublet” هي: “كلمة قد تبدو مختلفة عن كلمة أخرى، ولكن تشترك معها في جذر دلالي قديم”. الـ”الجذر الدلالي”: هو “المعنى الأصلي للكلمة، الذي تطور [بعيداً عنه] معناها المعجمي الحالي”. مثال لذلك: “ضاحية“، و”ضيعة“، الجذر الدلالي الأصلي لهما: [في البر، بَرّاني، حيث الضوء]، وتشتركان في ذلك مع “الضُحى” و”الوضوح“، وجميعها مشتقة من “ضوء” و”ضياء“.
ورقاء [ warqā ]، وفقاً للتعريفات السابقة، تعني: السمراء، أو السوداء المغبرّة.
صوت القاف: /q/، كما ذُكر أعلاه، صوت: (لهوي تفخيمي)، لايحل الا محل صوت الكاف: /k/.
بترقيق القاف في [ ورقاء]، تصبح: [ وركاء]، [ warkā ]
الـ “الوركاء” هو الإسم العربي للمدينة السومرية/الأكدية الشهيرة: “اوروك/uruk“، التي يقال أن إسم “العراق” محرف عنها.
الثابت عند الباحثين أن الإسم “وركاء/Warka” هو بمثابة “نطق عربي” أو “تعريب” للإسم الأكدي: “اوروك/Uruk”.
ولكن الحقيقة قد تكون خلاف ذلك.
الأقرب هو أن الكلمة العربية: “وركاء/ warkā” هي في الواقع: “جذيرة/cognate” للكلمة الأكدية: “uruk“.
كما ذكر أعلاه، الـ”جذيرة/cognate” هي: “كلمة قريبة لكلمة أخرى في لغة أخرى، لهما جذر مشترك قديم”. مثل: الكلمة الأكدية: “armannu“، والعربية: فاكهة الـ”رُمّان“، كل منهما “جذيرة” للأخرى. في كثير من الحالات، من الصعب تحديد “الجذيرة” بدون اجراء “تأثيل لغوي” مُعمّق.
بمعنى آخر: العرب لم “يعربوا” “اوروك/Uruk” وانما استخدموها هي نفسها، ولكن بصيغتها العربية: “ورقاء”.
“الورقاء” مشتقة من “الوُرْقَة“، التي تعني: “السواد”، الى جانب معناها الأقدم: “الخُضرة“.
الخلط بين “الخضرة” و”السواد” موجود في اللغة الأكدية أيضاً.
ما يشيء بذلك هو أن اللغة الأكدية تخلط بين : “الخضرة” و “الصفرة”.
في اللغة الأكدية: “يقال للأخضر أصفر، وللأصفر أخضر”.
فمثلاً الكلمات: ” arāqu” و “warāqu”، من معانيها “يصبح أخضر” أو “يخضرّ”، وكذلك: “يصبح أصفر” أو “يصفرّ”.
أما “urrīqu” فمن أبرز معانيها: “أخضر مصفرّ” أو “باهت”.
من هذه الكلمات، اشتقت كلمة: “awurriqānu”، التي تُطلق على “مرض الصفار” ، أو “ابو صفار”.
اللغة العربية شقيقة للغة الأكدية، وبقايا هذا الخلط موجود في العربية، عبر: ” أَرْقان/arqan” (أو يرَقان/yaraqan) التي تعتبر: “جذيرة/cognate” للكلمة الأكدية: “awurriqānu”.
“اليرَقانُ و(الأَرَقان): آفة تُصيب الإنسان يُصِيبه منها الصُّفار في جسده” (معجم لسان العرب)
” الْيَرْقَانُ : آفَةٌ تُصِيبُ الزَّرْعَ فَيَصْفَرُّ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ” (معجم المغني)
وعليه يمكن القول أن الكلمات العربية: “ الوَرَاقُ/خَضار” و”الوُرْقَة/سَواد” و”الأَرَقان/صَفار”، هن في الواقع: “أعدال/doublets”، ولكن بسبب التفرع الدلالي اعتبرتها المعاجم القديمة: “وحدات معجمية” مستقلة.
هذا من شأنه التأكيد على أن إسم المكان: “uruk“، كلمة أكدية معجمية، دلالاتها تشمل “الخضرة” أو “جماعة الشجر”، وقد تُستخدم بمعنى “سواد”، كناية عن كثافة غابات القصب والنخيل.
وبالمثل، الطوبونيم: “وركاء” هو المقابل العربي للتسمية الأكدية: “اوروك“، الذي يحمل نفس معناها الأكدي.
“الوركاء” هذه، موجودة في المعاجم العربية، ولكن بتفخيم الكاف، أي: “الورقاء“، وهي صفه مؤنثة من: “الوُرْقَة“، التي تعني: “السُمرة” أو “السواد”.
بناءاً على كل ما سبق، يمكن القول أن: “السواد” و”العراق” و”الوركاء“، مرادفات، لها نفس الدلالة: (اللون الأخضر أو الأسود).
وأن: “العِراق” (من عرق) و”الوركاء” (من ورك)، لغات، أي أنهما في الاصل كلمة واحدة، تنطق بطريقتين.
“وركاء” هي نفسها كلمة “اوروك“، وهي كلمة مشتركة بين اللغات السامية.
إسم المكان: “اوروك” لم يكن في الأصل إسماً للمدينة الشهيرة، والأقرب أنه وصف أكدي قديم، كان يطلق على المنطقة التي تقع فيها تلك الحاضرة السومرية، قبل ان يقتصر فقط على هذه الأخيرة. هذه الظاهرة المواقعية، ليست نادرة، وتسمى “طوبونيم شامر“.
طوبونيم شامر (totum pro parte): (شَمَرَ) تعني :”ضاق عن الأصل” أو “تقلّص”. والمقصود هو أن التسمية تبدأ كـ(دالّة)، على مكان واسع المساحة، ثم يَحدث، لاحقاً، أن يضيق مدلول هذه التسمية، بحيث تقتصر على مساحة أقل اتساعاً وتنوعاً من الأصل. هذه الظاهرة تُسمى: (totum pro parte)، وهي عبارة لاتينية تعني حرفياً: (الكل للجزء)، بمعنى اطلاق (اسم الإقليم) على أحد أجزء هذا الإقليم. ثمة أسباب عديدة لهذه الظاهرة من بينها: “نسبة القصبة للإقليم”، القصبة هي (العاصمة) أو (المدينة الكبرى) ذات الثقل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والمقصود هو ان تحمل (الحاضرة الرئيسية) اسم الإقليم الذي تقع فيه، كما يقال الآن: (الشام) والمقصود هو مدينة: (دمشق)، أو كما يقال قديماً مدينة: (اليمامة)، والمقصود هو مدينة: (حِجر)، لأن اليمامة هو الإقليم الذي تقع فيه (حِجر). هناك أيضاً أسباب جغرافية وتاريخية ودينية وقومية تجعل من اسم الـ(البلاد)، لقباً لناحية من نواحيها أو لكورة فيها. من أمثلة ذلك: الإٍسم: (بحرين)، الذي كان يطلق على الساحل الغربي للخليج، ثم (شَمَرت) التسمية لتقتصر فقط على جزيرة (أوال)، أي جزيرة البحرين الحالية. إسم (البحرين) في هذه الحالة يمكن ان يسمى: (طوبونيم شامر)، الأمر نفسه يمكن أن يقال عن: (قطر)، لانها هي أيضاً تسمية قديمة، كانت تشمل الكويت وشبه جزيرة قطر ومابينهما، بما في ذلك الأحساء والقطيف وجزر البحرين.
الأعدال والجذائر
لحسن الحظ ، كلمات اللغة “لاتفنى ولاتستحدث من العدم”. الكلمة التي يُعتقد انها تعرضت للفناء ولم تعد موجودة، هي في الواقع لاتزال “حية ومُنتِجة” ولكن بصيغة اخرى طرأ عليها بعض التغيرات الصوتية والدلالية.
اذا كانت هذه الصيغة الجديدة للكلمة موجودة داخل اللغة نفسها، تسمى “عديلة doublet”، أما اذا كانت هذه الصيغة الجديدة المختلفة موجودة في أحدى شقيقات اللغة العربية، فتسمى في هذه الحالة: “جذير cognate”.
السريانية “أورگا” (ܐܘܪܓܐ)
الورقاء (أو الوركاء) مشتقة من (الورقة/wurqa) أي السواد. لهذه الكلمة العربية “جذيرة” في اللغة السريانية وهي: “أورگا” (ܐܘܪܓܐ)، من معاني هذه الكلمة (وفقاً للمعجم السرياني ليعقوب منّا): “كميت” أو “أسود”. صاحب هذا المعجم يشير أيضاً الى ان هذه الكلمة السريانية هي “جذير” العربية “أورق” (أي أسود)، لأن السريانية شقيقة للغة العربية.
السريانية “حِركا” (ܚܪܵܟ݂ܵܐ)
الدلالة الأقدم لهذه الكلمة هي “يُسَوِّد/blacken”، ولكن من معانيها أيضاً في السريانية: “يُسَوِّد بالنار” ( to blacken over fire). [ܚܪܵܟ݂ܵܐ] تعتبر جذيرة للكلمة العربية: [ح ر ق]. من معاني “حرق”: “أسود”، فيقال “عمامة حرقانية” أي “عمامة سوداء”، الى جانب المعنى الأكثير شيوعاً هو “حرق النار”، أحرقته النار، أي أكسبته سواداً، أو “تَفَحّم” بفعلها. هذا من شأنه التأكيد على أن “ܐܘܪܓܐ” و”ܚܪܵܟ݂ܵܐ” أعدال (doublets) داخل اللغة السريانية، أي انهما تطورتا من جذر واحد قديم.
ولكون [ܐܘܪܓܐ] هي نفسها كلمة “وُرق” (wurq) العربية، فهذا قد يعني أن: “وُرق” (wurq) و”حرق” (hurq) أعدال (doublets) داخل اللغة العربية، أي انهما تطورتا من جذر واحد قديم.
الخلاصة حتى الآن: المنطقة التي كانت تُسمى: “سواد العراق”، كانت تُسمى في اللغة الأكدية : “uruk” أو “urruqu”، (أي أخضر أو أسود). قبل أن تقتصر هذه التسمية على المدينة السومرية المعروفة.
التبني والترجمة والإستبدال
المستوطنون الجدد في مكان ما، قد يتبنون الاسم القديم لهذا المكان، أو قد يترجمون معناه الى لغتهم، أو قد يستبدلونه بإسم جديد.
التبني: الإحتفاظ بالإسم القديم للمكان واستخدامه كإسم معتمد من قبل النازلين الجدد.
من أمثلة ذلك: “شيكاغو”، المهاجرون الأوربيون تبنوا هذا الإسم الهندي (الأحمر) للمكان.
الترجمة: الإحتفاظ بـ(معنى) الإسم القديم ولكن عبر ترجمته بكلمة مناسبة في اللغة الجديدة.
من أمثلة ذلك: “الدار البيضاء”، قاعدة ساحلية تحولت لاحقاً الى ميناء مهم، أنشأها الاستعمار البرتغالي-الإسباني بإسم “casa branca” ثم “casa blanca”، وبعد ذلك تُرجمت حرفياً الى: “الدار البيضاء”.
الإستبدال: التخلي عن الإسم القديم للمكان (لفظاً ودلالة)، وإجتراح إسم جديد، لاعلاقة له بالإسم الأول.
من أمثلة ذلك: مدينة سوسة التونسية، أسسها الفينيقيون بإسم: “حضرم” (أي الجنوب).
“أوروك”: طوبونيم مترجم
الساميون القدماء، (الناطقون بالأكدية)، نزلوا سواد العراق، واستخدموا إسم “أوروك/uruk” كإسم جديد للمدينة السومرية العظيمة: “أنُگ/Unug”. إذن لدينا الآن “إسم قديم” (أنُگ) و”إسم جديد” (أوروك). هل الإسم الجديد:
1- تبني للإسم القديم؟
2- ترجمة للإسم القديم؟
3- إسم مجترح لاعلاقة له بالإسم القديم؟
بسبب الاختلاف الصوتي الواضح بين الاسمين، يمكن القول أن الاسم الجديد ليس تبنياً للإسم القديم. الإجابة على السؤال الثاني ستدل تلقائياً على إجابة السؤال الثالث.
سبقت الإشارة الى أن معنى “أوروك” الأكدية قد يكون: “الخضرة” أو “السواد”، واذا كان الإسم “أوروك” ترجمة لـ “أنُگ“، فالأرجع أن التسمية السومرية: “أنُگ“، تحمل أيضاً دلالات الخضرة أو السواد.
معنى “أنُگ“
الرأي الغالب بين الباحثين أن كثير من الكلمات السومرية موجود في معاجم اللغات السامية، لاسيما الأكدية التي ابتلعت اللغة السومرية وحلت محلها. هذه التأثير السومري يسمى “طبقة مُؤَثر-سومري/Sumerian substratum”، وهنا بعض الأمثلة:
kud = (قد، يقد)
kalam = (اقليم)
kila = (كَيلة، مثقال)
sila = (سلعة، يسلع)
bar = (برّاني، الخارج)
tar = (يَطُر، يمزق)
agam = (ماءٌ آجِمٌ،أجمة)
agar = (عقار،حقل أجرد)
gaz = (جز،يجز)
udun = (أتون،الموقد الكبير)
كلمة Unug (أنُگ)
من الخصائص الصوتية للغة السومرية أنها لاتفرق بين الهمس الجهر، فقد ترد، في أحد النصوص، كلمة ما، تتضمن صوت (الدال المجهورة)، وفي نص آخر قد ترد نفس الكلمة وقد ابدل الدال فيها بوجهها المهموس، أي صوت التاء، الذي يسمى أحياناً (الدال المهموسة). وكذلك الأمر مع: (b/p) و(z/s) و(g/k). هذا الصوت الاخير: (g) يعتبر الوجه المجهور للكاف (k)، ولذلك يسمى الكاف المجهورة (voiced k). مثال لذلك : كلمة: “kir” التي تعني “بقرة”، هذه الكلمة تكتب أيضاً:”gir”. وعليه يمكن القول أن “Unug” يمكن أن تنطق أيضاً “Unuk”.
من الخصائص الصرفية للغة العربية أن: المقطع العربي لايقبل البدء بصائت. بعبارة أبسط: الكلمة الأجنبية التي تبدأ بأحد الصوائت (u-i-e-a)، تنطق في اللغة العربية بإضافة أحد أصوات الحلق والحنجرة: (همزة،هـ،ح،ع)، الى صدر تلك الكلمة. من أمثلة ذلك:
agar = عقار (أرض،حقل)
udun = أتون
úkur = عَقَر (ذبح)
ermu = حريم، حرَم، (غطاء، ساتر).
هذا قد يقود الى الإستنتاج أن نطق: “Unuk”، في اللغة العربية، قد يكون (عنوك/عَنَك) أو (حنوك/حَنَك). هذه الكلمة الاخيرة، “حَنَك” أو “حانك”، موجودة في اللغة العربية من معانيها: “اللون الأسود” أو”السواد”، فيقال مثلاً “حنك الغراب” أي “سواده”. وفي القاموس المحيط: “أسْوَدُ حانِكٌ: أي حالِكٌ”.
“حانك” هذه، تعتبر “صيغة لفظية جانبية/byform” لكلمة “حالك”، أو كما يقول إبن منظور: أن (حنك) “نونه بدل من لام حَلَك”.
اترك تعليقاً