الكتابة المسمارية

     السومريون، وفقاً للرواية المتداولة، قومٌ عاشوا في جنوب بلاد الرافدين وعلى السواحل الشمالية للخليج العربي. ينسب لهؤلاء القوم أول حضارة بشرية معروفة، كما ينسب لهم الفضل في “اختراع” الكتابة. اللغة السومرية تعتبر أول لغة مكتوبة، وواحدة من أقدم اللغات المعروفة. أما الأكديون فقد كانوا عشائر رعوية، خرجت من الجزيرة العربية، واستقرت في بلاد السواد، بين ظهراني السومريين. ثم ما لبثوا ان اخذوا بأسباب الحضارة والتمدن وبنوا في العراق أول امبراطورية في التاريخ. لغة هؤلاء الأكديوين لغة سامية شقيقة للغة العربية، لكنها شديدة الاختلاف عن لسان السومريين، مع ذلك كتبوا لغتهم الأكدية باستخدام “الكتابة المسمارية” التي اخترعها السومريين وخطّوا بها لسانهم الغريب. عندما دالت دولة الأكديين القدماء استمرت لغتهم السامية “لغة رسمية” لبلاد الرافدين. وعندما حل محلهم البابليون والأشوريون تبنوا هذه اللغة الأكدية، ودونوا بها معارفهم وفنونهم ومآثرهم العظيمة، بما في ذلك “أسماء الأماكن” أو “الطوبونيمات”.

النصوص السومرية والأكدية دونت بإستخدام ما يعرف بـ”الكتابة المسمارية”. أداة هذا النوع من الكتابة، كانت عبارة عن عود من القصب، يُنقّح طرفه حتى يصبح على هيئة مثلث مقطوم، عريض وغير حاد، وشبيه برأس الوتد أو المسمار. أما “الصحيفة” التي تحوي النص، فكانت عبارة عن قطعة مربعة أو مستطيلة من الطين الُحر،(الصلصال)، تُشَكّل وتُسَوّى لتصبح جاهزة لـ”غُرَز” ذلك “القلم المسماري”. هذه الصحيفة تسمى “لوح الطين” أو “رقيم الطين” واختصاراً “لوح” أو “رقيم”.

“الكلمات” التي تُعبّر عن مايريد قوله الكاتب، يتم”رسمها” بـ”غَرز” أو “ضَغط” طرف “القلم المسماري” في لوح الطين الطري، وعندما يجف هذا اللوح يصبح “صحيفة طينية”، تقوم مقام الرسائل والكتب الورقية في العصور اللاحقة.

الكتابة المسمارية لاتستخدم “حروف” لتسجيل أو “رسم” الكلمة المنطوقة، بل “رموز معقدة”، يتراوح عددها ما بين 600 الى 1000 رمز.  كل رمز من هذه الرموز يعبر عن “مقطع صوتي”، يتكون، في الغالب، من صوتين أو  ثلاثة أو أربعة أصوات.

في الجدول التالي بعض هذه “الرموز” و”المقاطع الصوتية” التي تمثلها:

هنا مثال بسيط لتقريب الصورة:  الكلمات العربية: (كتب)،(ركبوا)،(شبكوا).

كلمة: “كَتَبَ” تتركب من ثلاثة مقاطع: (ka-ta-ba). وكذلك كلمة “رَكِبوا”: (ra-ki-bu). وكلمة: “شَبَكوا”: (sha-ba-ku). المقطع الأول من الكلمة الأولى هو: “ka“، والمقطع الثاني من الكلمة الثانية هو: “ki“، والمقطع الثالث من الكلمة الثالثة هو: “ku“.

في الكتابة الأبجدية يُكتب كل مقطع باستخدام حرف: (الكاف/ك)، بالاضافة الى الحركة التي تحرّكه، أي: “كَ“، “كِ“، “كُ“. أما في الكتابة المسمارية المقطعية فيستخدم “رمز خاص” من الجدول أعلاه،(KA,KI,KU)، لكل مقطع من هذه المقاطع الثلاثة، مختلف تماماً عن الرمزين الآخرين:

الغالبية العظمى من هذه الألواح كانت عبارة عن “دفاتر تجارية” وجَرد محاسبي ونصوص بيع وشراء. الى جانب عدد أقل بكثير يتضمن قصص وترانيم وقصائد وأساطير، وتعاليم دينية وتشريعات قانونية ووصفات طبية وزراعية ومهنية، ومراسلات ومآثر وانجازات للحكام، ونحو ذلك.

الآثاريون واللغويون الذين فكوا شفرة الكتابة المسمارية، وتعرفوا على معاني الكلمات التي كتبت بها، عانوا من التداخل بين هذه الرموز، وكثرة الأخطاء المطبعية والإملائية، والاختصار والاختزال والحذف، واضطراب الخط وصعوبة قراءته.

لكن الأهم، هو ان النصوص السومرية والأكدية لم تُكتب بـ(لغة قياسية/standard language) موحدة في اللسانين، وذلك على النقيض من اللغة العربية واللغة الانجليزية. في العربية، هناك مايسمى:(الفصحى)، المعتمدة لغة للتدوين والتأليف والنصوص القانونية والدينية. في الانجليزية، هناك ما يسمى: (Standard English)، أي “الانجليزية القياسية”، لغة المنشورات الرسمية والمطبوعات الجادة والمناهج والعقود والمواثيق، ونحوا ذلك.

للسومرية والأكدية،كمعظم اللغات، لهجات عديدة متباعدة، وأساليب لغوية أدبية راقية، وأخرى شعبية مبتذلة. نقوش ألواح الطين عكست هذا كله. كل لوح من هذه الألواح كُتب بلهجة واسلوب القرية أو المدينة أو الناحية التي ينتمي إليها الكاتب، وبإستخدام المفردات والمصطلحات الشائعة هناك.

صعوبة الكتابة المسمارية وما يعتريها، وما يفرضه ذلك على الكاتب، الى جانب التدوين باللهجات واختلاف المفردات والمصطلحات، كل ذلك تسبب في كثرة “البدائل الإملائية spelling variants” و”الصيغ الجانبية by-forms”.

البدائل، (Variants)، تُعرّف بأنها: “طُرق كتابة مختلفة لنفس الكلمة، غالباً لاتؤثر على اللفظ”. كأن يكتب: “عَمر” بدلاً عن: “عَمرو”. أو: “لاكن” بدلاً عن: “لكن”. وفي الانجليزية: “facade” بدلاً عن “façade”. أو: ” OK” بدلاً عن ” okay”.

الصيغة الجانبية (byform)، تُعرّف بأنها: “بناء صوتي، أو صيغة لفظية (phonetic form)، أخرى للكلمة المنطوقة، غالباً ما تكون أقل شيوعاً واستخداماً من الصيغة الأصلية”. مثال لذلك: الكلمة العربية: “صاقعة” التي تعتبر “صيغة جانبية” لكلمة: “صاعقة”، وكذلك الكلمات: “حانك” و”حالك” (السواد). وفي الانجليزية: “shade” و”shadow”، و”aks”،”ask”.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *