خطيئة تغيير الأسماء

آلاف المقابر الركامية في الربع الخالي

ورد في جريدة الرياض خبر استوقفني وهو أن متخصصاً في الآثار هو الدكتور عوض بن علي الزهراني حمّل علماء الجغرافيا مسؤولية تغيير اسم «صحراء الربع الخالي» والتوقف عن ترديد الاسم الأول الذي ليس له في واقع الأمر شيء حيث ان الربع الخالي ليس خالياً بل (غال) بأهله وترابه ورماله ومائه وثرواته لذا يجب تغيير اسمه فقد تغيرت أسماء الكثير من الأماكن والدول

قلت: لو أن الأمر بهذه السهولة لتغيرت أسماء بعض الأماكن كل سنة، ولو جاءت هذه الدعوة من غير متخصص بالآثار لهانت ولكن أن تأتي من شخص يتوقع فيه الاهتمام بالقديم وتبجيله والحفاظ عليه فهذا من أعجب العجب. والربع الخالي وكل شبر من بلادنا غال بثرواته وأهله وكل شبر فيه ولكن هذا ليس مبرراً لتغيير اسمه. وقد حفزتني هذه الدعوة إلى كتابة تعليقي هذا

لا شك بأن أسماء الأماكن تسهم بدور كبير في التعريف بأحوال البيئات القديمة وذلك بتوثيق وجودها وامتدادها، وكذا تصوير حالة البيئات وما فيها وعلاقة ذلك بالنشاط البشري فيها. ويمكن كذلك معرفة المناخ القديم وأنواع النباتات ومصادر المياه من دراسة أسماء الأماكن ومدلولاتها. ولو رجعنا إلى خرائط المملكة العربية السعودية لاكتشفنا بأن الإنسان هنا قد أطلق اسماء وصفية ذات دلالات دقيقة على الأماكن سواء أكانت مظاهر أم ظواهر بشرية. علماً بأن اسم الربع الخالي ضارب في التاريخ فقد ذكره شهاب الدين أحمد بن ماجد في كتابه «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» في عام خمس وتسعين وثمانمائة من الهجرة النبوية، وذكر في الف ليلة وليلة باسم الربع الخراب

والربع الخالي كان خالياً بسبب أن بيئته بيئة جافة رملية مهلكة ومعادية للحياة، وما يرى من أسباب الحياة الجديدة فيه مردها إلى البحث عن النفط الذي بدأ منذ ما قبل الستينات من القرن العشرين. فجغرافيته معروفة وصوره موثقة وآبار مياهه التي حفرتها شركات النفط العالمية معلومة ومعروفة ونوعية مياهها محددة، بل أن خرائطه الجيولوجية من أدق الخرائط في المملكة العربية السعودية. فماذا بقي ليكتشف؟ لعل الهيئات الحكومية تبدأ في التركيز على الدراسات التفصيلة المتخصصة لما تحت الرمال مما قد يكون مطموراً من آثار بشرية، أما ما فوق الأرض فهو معروف وموثق

ولو أن تغير صفة المكان كاف لتغيير الاسم لاضطررنا إلى محو آلاف الاسماء التي تحكي واقع البيئات القديمة مثل: خب الريم (أين الريم الآن؟)، محير النعام (أين النعام الآن؟)، نقرة الظباء (أين الظباء الآن؟). فهل يكفي انقراض هذه الحيوانات من هذه الأمكنة لتغيير الاسم؟ الجواب بالنفي فهذه الاسماء وثائق تاريخية على وجود هذه الحيوانات في تلك الاماكن في زمن مضى. ويجب الاستفادة منها في مسألة إعادة التوطين ودراسة البيئات القديمة ونصوص الشعر وغير ذلك

ذكر الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في مقدمة المعجم المختصر: «فالأمة العربية أحوج ما تكون إلى ربط حاضرها بماضيها، وكثير من النصوص القديمة في الأدب أو الشعر أو التاريخ لا يمكن فهمها فهماً تاماً بدون معرفة ما تتصل به من بيئة. وكيف نفهم كثيراً من الوقائع التاريخية كالغزوات النبوية، ووقعات حروب الردة إذا لم نعرف المواضع التي حدثت تلك الغزوات والوقعات فيها؟ وكيف نتصور حياة أي شاعر من الشعراء المتقدمين تصوراً تاماً بدون معرفة مرابع صباه ومراتع هواه؟ وهل ندرك حقيقة ما أورده المؤرخون من خبر خوض العلاء بن الحضرمي وجيشه البحر إلى دارين من القطيف بدون أن نعرف حالة البحر الواقع بينهما؟»

كما أورد الشيخ محمد بن بليهد في مقدمة كتابه «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار» أن من أسباب تأليف كتابه طلباً كان قد قدم لجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز عند زيارته للولايات المتحدة عام 1945م كوزير للخارجية في المملكة العربية السعودية من رجالات الأدب العربي في المهجر «وهو أنهم يشعرون حاجة ملحة إلى معرفة ما ورد في الأشعار الجاهلية من الأودية والجبال والمياه والتلول والرمال والرياض والبلدان العامرة والدارسة، ومعرفة ما بقي منها إلى يومنا هذا على اسمه الأول، وما اعترى اسمه شيء من التغيير، وذكروا أن في هذه المعرفة عوناً للأديب الذي يتمرس بدراسة آثار أولئك الشعراء الخالدة آثارهم، الباقية على الدهر أسماؤهم. وإنما دعاهم إلى إبداء هذه الرغبة ما أدركوه من أن دراسة البيئة الطبيعية التي عاش فيها الشاعر أو الأديب أحد العوامل التي تعين على فهم شخصيته، وعلى تلمس بعض دواعي القول الذي فاض على لسانه، ثم قد يجر ذلك إلى معرفة شيء من خصائص لغات القبائل المختلفة ولهجاتها»

ولذلك فالدعوة إلى تغيير أسماء الأماكن لأسباب بسيطة مثل تغير شكل بيئاتها من أغرب الأمور. فالأمم النابهة ترفض تغيير أسماء الأماكن وتعود إلى أسماء الأماكن القديمة لدلالاتها المهمة حينما أطلقت ابتداء أو لمعانيها التاريخية، وتحافظ على الموجود. وهناك العديد من الأمثلة من أوروبا مثلما حدث لمدينة ليننجراد التي أعيدت إلى اسمها السابق بطرسبرج وفي أفريقيا العديد من الأمثلة التي عادت لأسمائها الافريقية الأصيلة ونبذت الاسماء الغربية الدخيلة

على أن هناك بعض التغييرات الإيجابية في أسماء الأماكن بالمملكة العربية السعودية كتغيير اسم «الجوف» الذي كان يطلق على دومة الجندل والعودة إلى الاسم التاريخي «دومة الجندل»، ذلك الاسم الضارب في التاريخ والموجود في معاجم اللغة والأدب والأماكن

ولكن هناك تغييرات سلبية في أسماء الأماكن منها تغيير اسم «وادي جلة الموت» إلى «وادي الحياة» ووادي جلة الموت أحد أودية تهامة قحطان بمنطقة عسير، ويوجد في منطقة صعبة التضاريس ذات جبال شاهقة وأودية ذات انحدارات قاتلة متعددة، تسكنه أعداد من الناس يعيشون حياة يعكسها الاسم الذي أطلق على الوادي. وقد بقي الاسم كدلالة على ما كان سائداً، ويمثل مرحلة تاريخية مهمة لا ينبغي أن تنسى من ذاكرة الوطن. ورغم ذلك فبعد وصول الخدمات إليه غُير اسمه مع الأسف من وادي جلة الموت إلى وادي الحياة. ففقدنا رابطاً مع التاريخ وشظف العيش كان ذلك الاسم كافياً لتخليده ونقله للأجيال الحاضرة التي لم تعرف تلك الاحوال المعيشية

وتغير نمط الحياة لا يكفي مبرراً لتعديل أو تغيير الأسماء فوادي الموت في غربي الولايات المتحدة الأمريكية الذي كان مصيدة مميتة للمهاجرين من شرقيها إلى غربيها بقي على اسمه بعد تحول أراضيه إلى مدن صاخبة وطرق مزفتة. ولم يجد الأمريكيون مدعاة لتغيير الاسم بل إنه أصبح مزاراً للسياح. وأول سؤال يسأله السائح أو طالب المدرسة هو لماذا سمي بهذا الاسم؟ والجواب هو في سرد معاناة السالكين له، فيقارن الماضي بالحاضر وهذا من أعظم الفوائد

والتغيير السلبي الآخر هو تغيير اسم أبي الدود بالقصيم إلى «أبو الورود». وسبب تسميته بأبي الدود هو ماذكره فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي في معجم بلاد القصيم أن السيل إذا تتابع عليه ولبث الماء في واديه- أي الوادي الذي يسيل منه (أبا الدود)- ومضى عليه مدة طويلة أسن الماء وتولد فيه دود. ثم يذكر أنه ورد ذكره في تاريخ ابن بشر، ومعجم دليل الخليج. كما ورد في المعاجم والخرائط والشعر الشعبي لذلك فتغيير الاسم بهذه الصورة يضر بالباحثين عن أسماء الأماكن واشتقاقاتها ودلالاتها

فماذا سنفعل بهذه المراجع العلمية وهذه الدلالات من النثر والشعر، فأبا الورود الاسم الخيالي الذي اختير بديلاً للاسم الأصلي بعيد في الرسم وفي الدلالة عن الاسم القديم. ولو أنه عدل إلى «أبا الذود» (بالذال) لأصبح يحافظ تقريباً على رسم الاسم الأصلي «أبا الدود» ولا يختلف عنه سوى بنقطة وهو «أبا الذود». والذود هو قطيع الإبل. وبهذه الصورة فلن يتغير رسم الاسم في الخرائط والمعاجم ولوحات الطرق إذ سيحتاج الأمر فقط إلى إضافة نقطة فوق الدال الأولى. وهذا الإجراء سيريح الباحثين الذي سيجدون الاسم كما هو برسمه القديم وسيتوهمون بأن هذه النقطة مجرد تصحيف، كما سيريح أهالي «أبا الذود» إذ سيبعد عنها الصفة القديمة الكريهة إلى صفة قديمة أيضاً وهي كونها معبراً للإبل. وهذا أفضل من الصورة المشتقة من الخيال وهي «أبا الورود»

إننا معشر الجغرافيين نعمل على بقاء الاسماء على حالتها القديمة لدلالاتها الجغرافية والتاريخية واللغوية، ولا نؤيد أي دعوة لتغيير الأسماء أو تعديلها. بل إن من يلهث وراء توثيق أسماء الأماكن القديمة ومقارنتها بالحديث مثل شيخنا العلامة الأستاذ عبدالله الشايع سيصاب بالدهشة من هذه الدعوة

أ.د. عبدالله بن ناصر الوليعي